القرآن والإنسان روحان يلتقيان
القرآن الكريم ؛ هذا الكتاب المعجز، قد بسط العلماء في الحديث عنه، وعرفوه بما أغنى وأوفى. ومجمل ما يمكن أن نجعله جماعا للتدبر فيه، أنه صوت، ورسم، ونظم، وبيان.فأما الصوت، فإن للقرآن حكمة عجيبة في بنائه الصوتي، لا تؤتي أثرها إلا بأداء مخصوص، على ترتيل وتجويد محكم، كما أداه النبي عليه السلام، وكما تواترت الروايات بذلك حتى قال ( ابن الجزري ) في منظومته :
والأخذ بالتجويد حتم لازم *** من لم يجود القرآن آثم
أما الرسم فمعناه في اللغة الأثر، أو هو بقية الأثر الذي يتركه الناس خلفهم بعد أن يرحلوا عن مكان كانوا فيه. ومن هذا المعنى انتقل إلى الكتابة والخط ؛لأنهم شبهوا تلك الآثار بالكتابة والخط. وهذا معروف عند الشعراء في مطالع قصائدهم، وتسمى الأطلال أيضا. قال ( لبيد ) في معلقته مشبها الأطلال ورسوم الديار بالكتابة :
وجلا السُّـيولُ عـن الطلول كأنها *** زُبُـرٌ تـُجِـدُّ مُـتونـَها أقلامُها.
وتطور اللفظ وأصبح له في الإسلام معنى خاص، يطلق للدلالة على الطريقة الخاصة التي كتب بها الصحابة القرآن بإملاء وتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم، والتي يظهر أن لها قواعد وضوابط تختلف بها عن الكتابة العادية. وانطلاقا منها كـُتب القرآن بين يدي النبي عليه السلام. وعلى قواعدها كان الجمع الأول في عهد أبي بكر، ثم الجمع الثاني في عهد عثمان، وإليه نسب فقيل «الرسم العثماني» وإنما هو في الحقيقة «الرسم القرآني» لأنه كان بتوجيه من النبي عليه السلام.وقد رفض (الإمام مالك) تغييره فقال لمن سأله : أرأيت القرآن، يكتب على ما استحدثه الناس من الهجاء فقال: «لا، إلا على الكتبة الأولى».
وأما النظم فمن الفعل (نظم – ينظم) أي نسق ورتب، في تناغم وانسجام. كنظم الجواهر في سلك ليكون عقدا منظوما.ونظم القرآن يبدأ من الحروف التي تنظم لتؤلف الكلمات، ثم تنظم الكلمات لتؤلف الجمل التي تؤلف النص القرآني كله. لذلك فالنظم مستويات؛ كلمات بحروفها، وجمل بكلماتها، ثم النص كله بجمله.
وأما البيان فمن الفعل (بان – يبين) بمعنى ظهر ووضح. فالقرآن جاء بمعاني أبان عنها وأظهرها من خلال تلك المستويات السابقة (الحرف والكلمة والجملة) فكانت تلك المستويات متكاملة في إفادة المعنى .لذلك فمفهوم البيان يتسع ليشمل كل ما له مساهمة في كشف معنى من معاني القرآن، أو توجيهه، أو تغليبه . يبدأ من الأصوات أداء وترتيلا، والحروف في الكلمات كتابة ورسما ، ثم الكلمات معجما ودلالة، إلى النظم والتركيب معاني ووظائف. فلا يقتصر أن يكون البيان قسما فقط من أقسام علوم البلاغة، إلى جانب البديع وعلم المعاني. وإن شئت، فإن بيان القرآن بيانات متعددة ومتكاملة؛ ففيه بيان صوتي، وبيان رسمي، وبيان لفظي، وبيان نظمي.
ولعل أخفى هذه البيانات وأبعدها أثرا، مع أن الدراسات كثيرا ما تغفله، وقليلا ما يُنتبه إليه، هو البيان الصوتي. أصغر وحدة مكونة للنص القرآني وأخطرها تأثيرا.كيف لا والقرآن منذ النزول الأول على النبي عليه السلام في غار حراء إنما كان أصواتا مسموعة. فلم ينزل مكتوبا وإنما كان قراءة من جبريل عليه السلام، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع . ثم تلاه النبي على الناس فسمعوه. وهذه خاصية مميزة لهذه المعجزة الربانية الخالدة؛ امتدادها الصوتي في الزمان. فكل المعجزات السابقة التي ثبّـت بها الله تعالى الرسل، كانت معجزات ذات علاقة بالبصر، فهي معجزات بصرية؛ كانقلاب العصا أفعى، والنار التي لا تحرق، والناقة الشاربة.... وغيرها. بل حتى معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة بالمئات ، كلها بصرية، شاهدها الناس الذين حضروها ثم انتهت بانتهاء زمانها ووقتها، ولم يبق إلا حديث عنها، ووصف متواتر رددته الأجيال. لكن القرآن فريد في إعجازه إذ هو خالف كل ذلك، فكان معجزة سماعية يُقرأ على أداء مخصوص مرتلا ترتيلا محكما ، متواترا شفاها منذ أنزله جبريل على النبي عليه السلام لم يتبدل ولم يتغير إلى يوم الناس هذا، وسيظل يتلى إلى قيام الساعة محفوظا بوعد الله.
هذا المدخل الصوتي، السمعي للقرآن يكشف عن لفتات ربانية مبهرة. فالسمع في جل الآيات القرآنية مقدم على البصر، وبعض فواصل الآيات تنتهي دائما بقوله تعالى « سميع بصير »، وليس في القرآن كله «بصير سميع». بل أثبت علم الأجنة الحديث، أن السمع يتكون في الجنين قبل البصر، فيسمع دقات قلب أمه وهو في بطنها. والترتيب نفسه نجده في آيات كثيرة منها قوله تعالى «هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة»، وقال تعالى في سورة الإسراء «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا». والمتأمل يرى في سياق هذا التقديم عجبا؛ فالبصر مشروط عمله بوجود النور، لذلك لا نرى في الظلام. أما السمع فمطلق في عمله، نسمع في النهار كما في الليل، بل هو في الليل أشد، نظرا لسكونه وهدوئه. لهذا سهل تعلم الأعمى واستعصى أن يتعلم الأصم. بل إن الإفناء يكون بالنفخ في الصور، تسمعه المخلوقات فتصعق. ثم النشر والبعث يكون أيضا بالنفخ في الصور، يسمعونه فإذا هم قيام ينظرون. كل ذلك وغيره من الدقائق، يرقى بالسمع في التلقي أشواطا لها قدرها وأبعادها. فالكلمة المسموعة لها تأثير على النفوس ومن ثم على السلوك. وهذا أمر قد عرفه الناس منذ القدم؛ عرفه الرهبان في الأديرة، والفرسان في الحروب، والكهان في المنافرات....وعرفه الخطباء والشعراء والحكماء. والله تعالى خلق الإنسان ووهبه هذه الملكة التي هي اللغة، (خلق الإنسان علمه البيان)، وجعل فيه بحكمته مكامن للتأثر ينفعل لها كلما استثارها مستثير، على قدر من اللطف مع لطفه، وقدر من الشدة مع شدته. والقرآن الكريم، بحكمة من الرحمان، جمع كل أسرار اللغة، لذلك جاء منسقا في غاية من القدرة الإلهية في قوة التأثير في النفوس، وهو ما جعل بعض الباحثين يتحدث عن الإعجاز التأثيري للقرآن. وكان من أسبق من أشار إلى ذلك ( أبو سليمان الخطابي – ت 388هـ)، في كتابه ( بيان إعجاز القرآن ) حيث يقول ( ص 70): « قلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم. وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس.»(من كتاب "ثلاثة رسائل في إعجاز القرآن") . وهذا الأمر ينكشف من بادي التأمل. فقد أخبر الحق سبحانه أن القرآن قول ثقيل « إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا». وهو قول تهتز له الجبال على رسوخها وشموخها ، فتتصدع ،«لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله»، هذا عن الجبل، فما بالك بالإنسان الضعيف. لهذا كان نزول الوحي على النبي شاقا، رغم أن الله هيأه لذلك وأعده في خلواته وتعبده في الغار زمنا قبل البعثة، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن الوحي كان ينزل على النبي، صلى الله عليه وسلم، في اليوم الشديد البرودة، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا. هذه القوة الإلهية النافذة التي تسري في بيان القرآن، هي التي هزت أصول الشرك في نفوس المشركين بمكة، وتسللت إلى قلوبهم غلابا، واقتحمت السويداء منها في كبرياء وعزة. فخر صناديدهم صرعى أمام هذا البيان الرباني المتدفق. فهذا (عمر بن الخطاب) أشد الناس عداوة للمسلمين، في قسوته وجبروته، حتى إنه ليعذب جارية له أسلمت لساعات، ثم يقول ما تركتك إلا ملالة. هذا الرجل يهوي صريعا أمام فواتح سورة (طه) ويقول في رقة واستكانة « ما أحسن هذا الكلام وأجمله » ثم يسلم. ومثله (أسَـيْد بن حُضير) سيد (الأوس) في المدينة عندما أتى غاضبا يحمل حربته إلى مجلس (مصعب بن عمير) ومعه (سعد بن زرارة الخزرجي) ، يعلم الأوس أمور دينهم ، فقال: « ماجاء بك تسفه ضعفاءنا ، اعتزل عنا إن كان لك بنفسك حاجة». فقال مصعب: « أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته نكـُـفُّ عنك ما تكره». فقال: «أنصفت». ثم ركز حربته وجلس. فما هو إلا أن سمع القرآن حتى قال مثلما قال عمر من قبل «ما أحسن هذا الكلام وأجمله»، ثم أسلم فتبعه قومه. بل أكثر من هذا، وأوغل في العجب، ما كان في مكة، من أمر المشركين المعاندين مع القرآن. فقد روى (الزهري) في قصة طويلة ذكرها (ابن هشام) في السيرة أن أبا (سفيان بن حرب)، و(أبا جهل)، و(الأخنس بن شريق)، كانوا يخرجون ليلا ليستمعوا إلى قراءة رسول الله في بيته، والواحد منهم لا يعلم بمكان صاحبه. فلما كشف بعضهم بعضا، تلاوموا، لكنهم عادوا ثم عادوا، ثلاثا، حتى تعاهدوا عهدا خوفا من افتضاح أمرهم، وهم القدوة، والناس على تربص سقطة منهم . وفي القصة يُكشف السر في العناد والمكابرة، إذ يقول أبو جهل للأخنس: « تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا بالركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ». لذلك مات أبو جهل مشركا . إذا كان هذا هو حال رؤوس الشرك والملأ المستكبر من قريش، فكيف كان حال الضعفاء ورقاق النفوس مع القرآن ؟
ولنا أن نتساءل، ما السر في هذا النفاذ المبهر للقرآن في النفوس على إطلاقها؟ حتى في قلوب أولئك الذين لا يفهمون اللغة العربية، وهو أمر قائم مشهود لا ينكر. فإذا استقصينا الأمر وأوليناه فضل تأمل، انكشف لنا منه أمر عجب؛ وأحالنا على قصة الخلق الأولى للإنسان. فالله تعالى لم يأمر الملائكة بالسجود لآدم وهو طين صلصال، وإنما كان السجود بعد التسوية والنفخ. قال تعالى «إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين». ومناط هذا الملحظ هو كلمة (روحي) حيث أضاف الله تعالى الروح إلى نفسه بياء المتكلم. لقد نفخ الله تعالى في آدم نفخة من روحه ، تسري فيه وفي ذريته إلى يوم القيامة. فكل البشر يحملون في خلقهم هذه البذرة المكنونة من روح الله، كافرهم ومؤمنهم. ولعل هذا ما يكشفه حديث النبي عليه السلام « كل مولود يولد على الفطرة». والملحظ الثاني أن الله تعالى سمى القرآن المنزل روحا . قال تعالى: « وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان». والملحظ الثالث أن الذي نزل بالقرآن على النبي وهو جبريل سماه الله أيضا روحا؛ قال تعالى « نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين». وهكذا فالإنسان يحمل في جوهره نفخة من روح الله ، والقرآن الكريم روح من الله أنزله كلاما يتلى على الناس، يسمعونه بآذانهم فينفذ إلى قلوبهم، والواسطة الحاملة ملك سامي سماه روحا أمينا. فتلتقي روح القرآن الرباني بالبذرة المكنونة في شوقها إلى أصلها، فتهزها كما يهز ماء السماء بذور الأرض فتربو وتزكو.وهذا التشبيه ليس بعيدا عما جاء في الذكر الحكيم ؛ قال (أبو حيان) في (البحر المحيط) عند قوله تعالى «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها»، قال: «هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب، والحق والباطل، فالماء مثل القرآن، لما فيه من حياة القلوب، وبقاء الشرع والدين. والأودية مثل القلوب، ومعنى (بقدرها) على سعة القلوب وضيقها.». لكن ذلك يكون على تفاوت في القلوب كما كان على تفاوت في تضاريس الأرض في استقبال الماء. فتلك البذرة المكنونة، بفعل من أدران الشرك ومفاسد الكفر، قد تـُغـلـَّـفُ وويَطمسها الـرّان، وعلى قدره يكون القلب صفيقا غلفا أو لطيفا رفقا. فتكون الاستجابة بحسب ذلك ، طوعا وبدارا كما فعلت (خديجة)، و(أبو بكر) وغيرهما من السابقين ، أو تعنتا وعنادا، بل ومحاربة وعداء، كما كان حال (أبي جهل) و(أبي لهب) وغيرهما من الجاحدين. فقلوب الأوائل كانت على قدر من الصفاء واللطف، جعل الروح القرآني بنوره ينفذ إلى البذرة المكنونة من نفخة الروح، في سلاسة ويسر فيهزها في ألفة وشوق. أما قلوب الأواخر، فعلى درك من الصفاقة والغلظة، منعت النور من النفاذ بعد أن ختم الله عليها. ولعل الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، يصور لنا هذا التفاوت في التلقي والاستجابة، بمثل في غاية البيان والتصوير. حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: « مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله" .
وهكذا كان هذا الربط الرباني، بحبل ممدود بين السماء والأرض، ليرفع الإنسان من ذل التراب، إلى سمو الروح وعز الاقتراب. ثم أليس هذا الإنسان، قد استوثق الله منه بميثاق في أصول الغيب، وأشهده على وحدانيتة فأقر بها؟ فقد قال تعالى «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى» (الأعراف 172 ). فهذا الميثاق شاهد على كل نفس بالحق، وبرهان عليها إذا أنكرت أو كفرت. وما يأتي الأنبياء والرسل إلا للتذكير بذلك، حين ينحرف الناس عن هذه العقيدة، وينكبوا عن هذه الفطرة التي فطرهم الله عليها. ولذلك سمى الله القرآن (ذكرا) وهي كلمة من الجذر(ذكر) وجاءت في القرآن بصيغ متعددة ، بين فعل بمختلف أزمنته ( ذكر – اذكر – يذكر – تذكر ..)أو اسم على ضروب اشتقاقاته ( ذاكر ون - ذاكرات – مذكر – تذكرة...)ولعل أجمع معنى يحتوي هذا الجذر هو الاستحضار والتدبر، وهو ضد النسيان .وذكر له (ابن فارس) في (مقاييس اللغة)، أصلان أحدهما المذكر ضد المؤنث والأصل الثاني قال عنه «ذكرت الشيء خلاف نسيته ، ثم حُمل عليه الذكر باللسان». فيكون المعنى استحضار شيء سابق محفوظ في الذهن والنفس، قد تكون الغفلة وطول العهد بها، قد حجبه ومنع بروزه، فهو أبدا محتاج إلى ما يستثيره، فيعيده متوقدا مجلوا. وذلك الميثاق الذي أشهد الله تعالى به خلقه على أنفسهم من جنس هذا. ينساه الناس فلا يذكرونه، فتنشعب بهم الأهواء ويتيهون في الضلال والغي، وظلمات الشرك. فكان الله تعالى يرسل الرسل ليذكروهم بعهدهم ، وميثاقهم، وأن الله هو المستحق للعبادة . ولهذا كانت رسالة الأنبياء والرسل جميعا ، كل في قومه وبلسانهم، واحدة ثابتة لاتتبدل ( أن اعبدوا الله) . حتى كان النبي الخاتم، وكان الذكر الخاتم ذكرا للعالمين . فقال فيه تعالى « إن هو إلا ذكر للعالمين » وسماه (ذكرى ) و(تذكرة). فالقرآن بخطابه البياني المعجز في تأثيره في نفوس الناس جميعا، على الوجه الذي فصلناه سابقا ، جاء ليذكر بهذا العهد والميثاق الذي أكنه الله واستبطنه في نفوسهم منذ الخلق الأول، وهم به عارفون سواء استجابوا أم عاندوا، فهم في المعرفة به سواء. و لما عرض (ابن قيم الجوزية) لهذه الآية في كتابه ( الروح ) قال في الصفحة (166 ) : « وهو ميثاق إشهاد تقوم به عليهم الحجة، وينقطع به العذر، وتحل به العقوبة، ويستحقون بمخالفته الإهلاك. فلا بد أن يكونوا ذاكرين له، عارفين به، وذلك ما فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته، وأنه ربهم، وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون. ثم أرسل إليهم رسله، يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم ».وبشيء من التدبر في هذا يمكن أن نخلص إلى أن ليس الكفر إلا جحودا، لأسباب قد تكون ظاهرة مكشوفة، وقد تكون خفية مستبطنة، بقصد مُدبَّـر أو تقليد مُـؤصَّل . وقد قال تعالى عن المكابرين من قوم موسى، وقد ذ ُكـِّـرُوا فلم يَـذكروا، وشهدوا الآيات ولم يؤمنوا « وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا»( النمل 14 ) .قال الطبري في تفسير هذه الآية « وأيقنتها قلوبهم، وعلموا يقينا أنها من عند الله، فعاندوا بعد تبينهم الحق ومعرفتهم به». وما حدث مع موسى، حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم، من مشركي قريش فحزن واشتد عليه ذلك، فقال الله تعالى، بنفس الخطاب، للنبي عليه السلام، وقد أثر فيه جحود قريش وعنادهم « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون» (الأنعام 33).
إن التقاء الروح من كلام الله، بالروح المكنونة في الإنسان من النفخة الإلهية ، ربط فرع بأصل، يكشف عن هذه النعمة الربانية، المتمثلة في تكريم الإنسان وتفضيله على كثير من خلق الله. فقد خصه بهذه الخاصية التي انفرد بها، فساد الكائنات، ألا وهي الروح التي وضع الله آياتها شاهدة على وحدانيته، وأخفى عن الخلق سرها، واستأثر وحده بعلمها وأمرها. والناس أحد رجلين؛ مُـزكٍّ لها مُفلح، ومُـدسٍّ لها خائب. قال عز وجل « قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ». واللافت أن من معاني (دسّى)، (أخفى). جاء في (لسان العرب) « واعتبر (الليث) ما قاله في (دسى) من قوله تعالى: ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) أي أخفاها ». فيلتقي معناها بمعنى (كفر)، التي هي في أصلها تعني (ستر). فالكافرإنما سمي كافرا لأنه ساتر للفطرة التي فطر الله الناس عليها . فهو يسترها ويخفيها إما عمدا جهارا، أو تقليدا واتباعا. فليس على الأرض من بشر إلا ويحمل في داخله علما بربه وخالقه ، فطرة، وميثاقا، ثم ذكرا؛ زكـّاه ونماه، فأظهره، فأفلح، أو دسّاه وأخفاه، فأخمله، فخاب. جاء في تفسير الكشاف للزمخشري «التزكية، الإنماء والإعلاء بالتقوى، والتدسية، النقص والإخفاء بالفجور».
الأستاذ مصطـفى بوعـزة